كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلما سمع صرير القلم عظم شوقه فقال رب أرني انظر إليك. قالت الأشاعرة إن موسى سأل الرؤية وأنه عارف بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى. فلو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها. قال القاضي: للمحصلين من العلماء في هذا المقام أقوال: أحدها قول الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك في معرفته لأن العلم بامتناع الرؤية وجوازها لا يبعد أن يكون موقوفًا على السمع، وزيف بأنه يلزم أن يكون موسى أدون حالًا من علماء المعتزلة العالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى، وبأنهم يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيًا فإنه يجب أن يكون مقابلًا أو في حكم المقابل، فلو لم يكن هذا العلم حاصلًا لموسى كان ناقص العقل وهو محال، وإن كان حاصلًا وجوّز موسى عليه المقابلة كان كفرًا وهو أيضًا محال. وثانيها طريقة أبي علي وأبي هاشم أن موسى عليه السلام سألل الرؤية عن لسان قومه فقد كانوا يكررون المسألة عليه بقولهم: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] وزيف بأنه لو كان كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك، ولقال الله لن يروني، وبأنه لو كان محالًا لمنعهم كما منعهم لما قالوا اجعل لنا إلهًا، وبأن ذكر الدليل القاطع في هذا المقام فرض مضيق فلم يمكن تأخيره مع أنهم كانوا مقرين بنبوّة موسى كفاهم في الامتناع عن السؤال قول موسى وإلا فلا انتفاع لهم بهذا الجواب فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن هذا المنع من الله بل هذا مما افتريته على الله. وثالثها وهو اختيار أبي القاسم الكعبي أن موسى سأل ربه المعرفة الضرورية بحيث تزول عندها الخواطر والوساوس كما في معرفة أهل الآخرة. وردّ بأنه تعالى أراه من الآيات كالعصا واليد وغيرها ما لا غاية بعدها فكيف يليق به أن يقول أظهر لي آية تدل على أنك موجود؟ ولو فرض أنه لائق بحال موسى فلم منعه الله تعالى عن ذلك؟ ولقائل أن يقول: منعه في الدنيا لحكمة علمها الله تعالى ولا يلزم منه المنع في الآخرة. ورابعها وهو قول أبي بكر الأصم أن موسى أراد تأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي، وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء. وضعف بأنه كان الواجب عليه حينئذ أن يقول: أريد يا إلهي أن يقوى أمتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في عقلي. ولقائل أن يقول: هذا تعيين الطريق. وفي الآية سؤال وهو أنه تعالى لم قال: {لن تراني} دون {لن تنظر إليّ} ليناسب قوله: {انظر إليك} والجواب لأن موسى لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل {أرني} ومن حجج الأشاعرة أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز هو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز.
وردّ بأنه علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته بدليل قوله: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه} أي وقت النظر وعقيبه واستقرار الجبل حال حركته محال. ومنها قوله: {فلما تجلى ربه} أي ظهر وبان ومنه جلوت العروس إذا أبرزتها، أو ظهر للجبل اقتداره وتصدى له أمره وإرادته {جعله دكًا} أي مدكوكًا كالمصدر بمعنى مفعول. والدك والدق أخوان. ومن قرأ بالمد أراد أرضًا دكاء مستوية ومنه ناقة دكاء متواضعة السنام. والدكاء أيضًا اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة. والغرض من الجميع تعظيم شأن الرؤية وأن أحدًا لا يقوى على ذلك إلا بتقوية الله وتأييده. وقالت المعتزلة: الرؤية أمر محال لقوله: {لن تراني} وكلمة {لن} إن لم تفد التأبيد فلا أقل من التأكيد. وأيضًا الاستدراك في قوله: {ولكن انظر} معناه أن النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر إلى الجبل لتشاهد تدكك أجزائه وتفرق أبعاضه من عظمة التجلي، وإذا لم يطق الجماد ذلك فكيف الإنسان؟ قالت الأشاعرة هاهنا: لم يبعد أن يخلق الله تعالى حينئذ في الجبل حياة وعقلًا وفهمًا ورؤية. وأيضًا قوله: {وخر موسى صعقًا} أي مغشيًا عليه غشية كالموت دليل استحالة الرؤية على الأنبياء فضلًا عن غيرهم. روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم يقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة. وأيضًا قوله بعد الافاقة من الصعقة {سبحانك} أنزهك عما لا يليق بك من جواز الرؤية عليك {إني تبت إليك} من طلب الرؤية بغير إذن منك وإن كان لغرض صحيح هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنص من عندك {وأنا أوّل المؤمنين} بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس. وقالت الأشاعرة: وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك. ثم لما سأل الرؤية ومنعه الله إياها أخذ في تعداد سائر نعمه عليه وأمره أن يشتغل بشكرها {فقال يا موسى إني اصطفيتك} الآية. والمقصود تسلية موسى عن منع الرؤية. قيل: وفي هذا دليل على جواز الرؤية في نفسها وإلا لم يكن إلى هذا العذر حاجة. وإنما قال: {اصطفيتك على الناس} ولم يقل على الخلق لأن الملائكة قد تسمع كلام الله تعالى من غير واسطة كما سمعه موسى. والغرض أنه تعالى خصه من دون الناس بمجموع أمرين الرسالة والكلام وسائر الرسل لهم الرسالة فقط. وإنما كان الكلام بلا وسط سببًا للشرف بناء على العرف الظاهر وقد جاء في الخبر أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج بعين الرأس. وفي ذلك دليل على أفضليته على موسى شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبًا وقرّبه إليه بلطفه تقريبًا وبين من قرب له الحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب.
والمزاد بالرسالات هاهنا أسفار التوراة {فخذ ما أتيتك} من شرف الرسالة والكلام {وكن من الشاكرين} لله على ذلك بأن تشتغل بلوازمها علمًا وعملًا. ثم فصل تلك الرسالة فقال: {وكتبنا له في الألواح} قيل: خر موسى صعقًا يوم عرفة وأعطاه الله التوراة يوم النحر. وذكروا في عدد الألواح وفيو جوهرها وطلولها أنها كانت عشرة ألواح، وقيل سبعة، وقيل لوحين، وأنها كانت من خشب نزلت من السماء. وعن وهب أنها كانت من صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى قطعها بيده وشققها بأصابعه. وقيل: طولها كان عشرة أذرع. والتحقيق أن أمثال هذه يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا وجب السكوت عنه إذ ليس في الآية ما يدل على ذلك. وأما كيفية تلك الكتابة فقال ابن جريج كتبها جبرائيل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وحكم هذا النقل أيضًا كما قلنا {من كل شيء} مفعول {كتبنا} و{من} للتبعيض نحو أخذت من الدراهم {موعظة وتفصيلًا} بدل منه فيدخل في الموعظة كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد. وأراد بالتفصيل تبيين كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أقسام الأحكام، ويجوز أن يكون {موعظة وتفصيلًا} مفعولين ل {كتبنا} والتقدير: وكتبنا له في الألواح موعظة من كل شيء وتفصيلًا لكل شيء. قيل: أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى. وعن مقاتل: كتب في الألواح أني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئًا ولا تقطعوا السبيل ولا تحلفوا باسمي كذبًا فإن من حلف باسمي كذبًا فلا أزكيه، ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تعقوا الوالدين. {فخذها} على إرادة القول أي وكتبنا فقلنا له خذها أو بدل من قوله: {فخذ ما أتيتك} والضمير للألواح أو لكل شيء لأنه في معنى الأشياء، أو للرسالات أو للتوراة {بقوّة} بجد وعزيمة فعل أولى بالعزم من الرسل {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} سئل هاهنا أنه لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأمورًا به، فظاهر قوله: {يأخذوا بأحسنها} يقتضي أن فيه ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز الأخذ به. وأجاب العلماء بوجوه منها، أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب فيكون كقوله: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55] وكقوله: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر: 18] قال قطرب: الأحسن بمعنى الحسن وكلها حسن. وقيل: الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح والأحسن الواجب والمندوب.
وقال في الكشاف: يجوز أن يراد يأخذوا بما أمروا به دون ما نهوا عنه كقولهم الصيف أحر من الشتاء. ثم ختم الآية بالوعيد والتهديد فقال: {سأريكم دار الفاسقين} قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعني جهنم أي ليكن ذكر جهنم حاضرًا في أذهانكم لتحذروا أن تكونوا منهم. وعن قتادة: يريد مواطن الجبابرة والفراعنة الخاوية بالشأم ومصر ليعتبروا بذلك فلا يفسقوا مثل فسقهم فيصبيهم مثل ما أصابهم. وقال الكلبي: هي منازل عاد وثمود وأقرانهم يمرون عليها في أسفارهم. وقيل: المراد الوعد والبشارة بأن الله تعالى سيرزقهم أرض أعدائهم ويؤيده ما قرئ {سأورثكم}. وقوله: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} [الأعراف: 137].
ثم ذكر ما به يعامل الفاسقين المتكبرين فقال: {سأصرف عن آياتي} الآية. فاحتجت الأشاعرة بها على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصرف عنه. وقال الجبائي: قوله: {سأصرف} للاستقبال والمصروفون موصوفون بالتكبر والانحراف عن الطريق المستقيم في الزمان الماضي، فعلم أن المراد من هذا الصرف ليس هو الكفر. وأيضًا الصرف مذكور على وجه العقوبة على التكبر والاعتساف ولا تكون العقوبة عين المعاقب عليه فوجب تأويل الآية. وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن هذا الكلام تمام لما وعد الله به موسى من النصرة والعصمة أي أصرفهم عن آياتي فلا يقدرون على منعك من تبليغها كما قال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم {بلغ ما أنزل إليك} إلى قوله: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] وقيل: سأصرف هؤلاء المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدَّة للأنبياء والمؤمنين، فيكون ذلك الصرف المستلزم للإذلال والإهانة جاريًا مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله تعالى. وقيل: إن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بما بعد ذلك فحينئذ يصرفم الله تعالى عنها. وبوجه آخر إن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها، فإذا علم الله تعالى ذلك صح أن يصرفهم عنها، أو عن الحسن: إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه وهي بالطبع والخذلان، فالمراد بالمصروفين هؤلاء. وعن رسول صلى الله عليه وسلم: «إذا عظمت أمتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي» قوله: {بغير الحق} أما أن يكون حالًا بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبير بالحق لله وحده، إذ لا كمال فوق كماله فله إظهار العظمة والكبرياء على كل من سواه، وإما أن يكون صلة للفعل أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الذي لا أصل له، ومنه يعلم أن للمحق أن يتكبر على المبطل كما قيل: التكبر على المتكبر صدقة.
والرشد طريق الهدى والحق والصواب كلاهما واحد قاله الكسائي، وفرق أبو عمرو فقال: الرشد بضم الراء الصلاح لقوله: {فإن آنستم منهم رشد} [النساء: 6] وبفتحتين الاستقامة في الدين قوله تعالى: {مما علمت رشدًا} [الكهف: 66] وسبيل الغي ضد ما ذكرنا. ثم بين أن ذلك الصرف وتعكيس القضية إنما كان الأمرين: كونهم مكذبين بآيات الله، وكونهم غافلين عنها، ومحل ذلك الرفع على الابتداء أو النصب على معنى صرفهم الله ذلك الصرف بسبب أنهم كذا وكذا. ثم بيّن أن أولئك المتكبرين مجزيون شر الجزاء وإن صدر عنهم صورة الإحسان والخير فقال: {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} أي جحدوا المعاد حبطت أعمالهم. ثم قال: {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} احتجت الأشاعرة بها على فساد قول أبي هاشم إن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد ترك الواجب وإن لم يصدر عنه فعل ذلك. قالوا: لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس بعمل. أجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء. ورد بأن الجزأ ما يجزىء، أي يكفي عن المنع عن النهي أو في الحث على المأمور، لكن العقاب على ترك الواجب كافٍ في الزجر عن ذلك فكان جزاء. قيل: إن بني إسرائيل كان له عيد يتزينون فيه يستعيرون من القبط الحلي فاستعاروها مرة فأغرق الله القبط فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل، فلهذا أضيفت إليهم على أن مجرد ملابسة الاستعارة أيضًا تحقق الإضافة وتصححها. والحليّ جمع حلي كثدي وثديّ. ومن كسر الحاء فللإتباع. فجمع السامري تلك الحليّ وكان رجلًا مطاعًا فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلهًا بعبدونه فصاغ السامري لهم عجلًا. واختلف المفسرون بعد ذلك فقال قوم: كان قد أخذ تراب حافر فرس جبرائيل فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحمًا ودمًا وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلهكم وإله موسى. قال أكثر المفسرين من المعتزلة: إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفًا ووضع في جوفه أنابيب على وجه مخصوص، ثم وضع التمثال على مهب الرياح فظهر منه صوت شديد يشبه خوار العجل. وقال آخرون: إنه صير ذلك التمثال أجوف وخبأ تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس. وإنما قال سبحانه: {واتخذ قوم موسى} من أن المتخذ هو السامريّ وحده لأن القوم رضوا بذلك واجتمعوا عليه فكأنهم شاركوه، أو لأن المراد باتخاذ العجل هو عبادته كقوله: {ثم اتخذتم العجل من بعده} [البقرة: 51] أي من بعد مضيه إلى الطور. قال الحسن: كلهم عبدوا العجل غير هارون لعموم الآية ولقول موسى في الدعاء {رب اغفر لي ولأخي} ولو كان غيرهما أهلًا للدعاء لأشركهم في ذلك.